مقال .. المواطن بين جوال والوطنية
أننا لا زلنا في مرحلة التحرر الوطني، وأن الإختلاف على جلد الدب، لا قيمة له قبل إصطياده، والدب هنا هو الإستقلال الناجز، وجلده هو النظام السياسي، والإقتصادي، والإجتماعي الذي نريد، وعلى ما يبدو فإن قصة الدب، قد وفرت ملاذا، لجميع القوى الفلسطينية للهروب من واجباتها المجتمعية، والأسئلة الصعبة التي لا يمتلك أين منهم جواب فعلي لها
كتب د. رائد محمد الدبعي
طغى خبر إعلان جوال، والوطنية موبايل، عن أسعار خدمة3G ، التي تقدمانها لأول مرة تجاريا في فلسطين، مع انتزاع تصريح، يشمل الضفة الغربية دون قطاع غزة، بعد إحدى عشر عاما من المماطلات الإسرائيلية، على الكثير من الأحداث التي تجتاح فلسطين والمنطقة، إذ فرض الخبر نفسه على مواقع التواصل الإجتماعي، وجلسات المقاهي، ولقاءات الأصدقاء، والسهرات العائلية، وأظهرت تعليقات معظم المواطنين حالة الإستياء العامة، من عدم موائمة الأسعار، مع الأوضاع الإقتصادية للمواطنين، ومع أسعار الخدمة في دول الجوار، ومع توقعات المواطن الفلسطيني، وعلى الرغم من استفادة شركة الوطنية موبايل من ملاحظات المواطنين على أسعار شركة جوال، وتقديمها عروضا أقل تكلفة، وتصريحات شركة جوال بأن الأسعار تخضع لمراجعة مستمرة، وتقييم دائم، إلا أن المواطن الفلسطيني لا زال يطمح إلى الحصول على الخدمة بأسعار أرخص، وجودة عالية .
- نقاش مجتمعي ذو دلائل هامة
56% من الشعب الفلسطيني يستخدم وسائل التواصل الإجتماعي، كما أن 69.2% من الفئة العمرية بين 15-29 هم من متصفحي الفيس بوك، وهي من النسب المرتفعة على المستوى العالمي، علما بأن النسبة قابلة للإزدياد، وهو الأمر الذي يحتم الإصغاء إلى اَراء، ومقترحات، وتطلعات، هذا القطاع، الذي يعكس حقيقة المجتمع، ويشكل مراَة حقيقية، لأفكار شبابه، وطموحاته، ورؤاه لمختلف القضايا المجتمعية، وقد أظهر هؤلاء قدرتهم على إرسال رسالتهم بطرق إبداعية، ومبتكرة، سواء من خلال استخدام فن الفكاهة، أو الكاريكاتير، أو مقاطع الفيديو، أو المقارنة الدقيقة حول الأسعار المقدمة للخدمة، مع نظيرتها في الدول الشقيقة كالأردن على سبيل المثال، أو الدعوة لمقاطعة الخدمة، من أجل إجبار الشركات المزودة على مراجعة الأسعار، وغيرها الكثير من الوسائل، التي يبدو أنها وصلت بكل وضوح للشركات المزودة للخدمة، وهو الأمر الذي يؤكد قدرة الشباب الفلسطيني على الإبداع، والتعبير عن قضاياه بالطرق الحضارية، والقانونية، ويحتم إشراكهم بشكل حقيقي وفاعل في القضايا العامة، والقرار العام، إذ أنهم أثبتوا خلال الساعات الماضية، قدرتهم على إحداث التغيير، وتمتعهم بالإيجابية، والمبادرة، ومعرفة حقوقهم المدنية، والإجتماعية، والإقتصادية، ودفاعهم عنها بشكل يعكس صورة حضارية عن الوطن .
- الدب وجلده :
في مرحلة طفولتي، ومطلع صباي، شاركت في عشرات المخيمات الصيفية، التي نظمت من قبل العديد من المؤسسات الرسمية، والحزبية، ومؤسسات المجتمع المدني، لاحظت أن معظم المحاضرين في القضايا الفكرية، والمجتمعية، كانوا يجيبون على سؤالنا حول القضايا الإقتصادية والمجتمعية، بأننا لا زلنا في مرحلة التحرر الوطني، وأن الإختلاف على جلد الدب، لا قيمة له قبل إصطياده، والدب هنا هو الإستقلال الناجز، وجلده هو النظام السياسي، والإقتصادي، والإجتماعي الذي نريد، وعلى ما يبدو فإن قصة الدب، قد وفرت ملاذا، لجميع القوى الفلسطينية للهروب من واجباتها المجتمعية، والأسئلة الصعبة التي لا يمتلك أين منهم جواب فعلي لها، متناسين أن قضية الدب، والجلد، التي كانت تشكل نقطة قوة، لتجنيد المؤمنين في صفوف الثورة، على اختلاف مشاربهم الفكرية، والدينية، وخلفياتهم الأيدلوجية، لم تعد تجيب على أسئلة اليوم، ولا على حقائق الواقع، فمنذ أن أعلنت منظمة التحرير الفلسطينية قيام دولة فلسطين، بتاريخ 15-11-1988، أضحى طرح تلك الأسئلة واجب، وأضحت الإجابة عنها ضرورة ملحة، وهو الأمر الذي أصبح أكثر إلحاحا مع تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية، والإعتراف بفلسطين دولة في الامم المتحدة، إذ أضحت قضايا العدالة الإجتماعية، والنظام الإقتصادي، والحقوق الأساسية للمواطن من تعليم، وصحة، ومسكن، وأمن، وكرامة، قضايا لا تقبل التأخير أو المماطلة، وهو الأمر الذي لفت إنتباهي غيابه خلال الأيام الماضية، فإن كانت قضية مثل ال 3G، التي تدخل كل بيت فلسطيني، ويبلغ عدد المستفيدين منها بشكل مباشر، حاليا ومستقبلا، بعد دمج قطاع غزة في الخدمة، هو3.8 مليون مواطن، ليس ذي أهمية لدى الفصائل، ومؤسسات المجتمع المدني، وجمعيات حماية المستهلك، وموجهي الرأي العام، فما هي تلك القضايا الأكثر أهمية، وإن كان الدفاع عن جيوب المواطنين، وحق الفقراء بالتمتع بالخدمة بأسعار مناسبة، ليس على أجندتهم، فما هي الأكثر إلحاحا، وتقدمية، وأولوية من المواطن، فالوطن قبل أن يكون الحجارة، والإسفلت، والمباني، والمواكب، والمسميات، هو المواطن، ولقمة الخبز، وشربة الماء، والكتاب، والقلم، والدواء، والدفء، والكرامة، والحرية، والشعور بالأمان، والصوت المسموع، كما أن الحرية هي التحرر من الفقر، والبطالة، والجهل، والمرض، قبل التحرر من الإحتلال، وهي تحرير للعقل، والروح، قبل الجسد، وهو الأمر الذي أثبتت جميع القوى، سواء تلك التي ترفع شعارات يسارية، أو يمينية، أو وطنية، أو دينية، أو تقدمية، أو محافظة، فشلها الذريع فيه.
- الليبرالية الظالمة تنخر فلسطين :
من الواضح أن السوق في فلسطين، يخضع بشكل متسارع للقوانين الليبرالية، والليبرالية الجديدة، التي لا تأبه بجوع الفقراء، أو وجعهم، وهو الأمر الذي يمكن تلمسه بتوسع نطاق التعليم الخاص، والمستشفيات الخاصة، والشركات العابرة للحدود والقارات، وأنماط الحياة الإستهلاكية، وارتفاع أسعار السكن، وخضوعها لقوانين السوق، ورفع الدولة يدها عن تحديد مسارات الإقتصاد وأولوياته، وهو الأمر الذي قاد نحو تراجع العمل في الزراعة، والحرف اليدوية، وتهويد الأراضي، وهجرة الشباب، وارتفاع مستويات البطالة، والإحباط، والغضب، وتفسخ النسيج المجتمعي الفلسطيني، لصالح القطاعات الخدماتية، والإستهلاكية، إذ كان من الممكن أن تفرض الدولة عند منح ترخيص لأي شركة اتصالات شروطا، تضع بموجبها سقوفا لأسعار مختلف الخدمات المقدمة، أو أن تكون شريكا لها منذ البداية، لضمان المحافظة على مصالح المواطنين، واستثمار العائد في مجالات إنتاجية، وخدماتية، يستفيد منها أوسع شريحة من المواطنين، بدلا من أن يزداد الأغنياء غنى، والفقراء فقرا، وتتلاشى حماسة المواطنين للثورة، والتطوع، أو العمل السياسي، أو المشاركة في الشأن العام، لصالح البحث عن رغيف الخبز، داخل الفقاعة الكبيرة التي تسمى وهما نظاما اقتصاديا، كما قال الكاتب الفرنسي " بنجامين بارت " في كتابه، حلم رام الله .
كما أن وجود شركات متنافسة في السوق الفلسطيني، أثبت ضرورة التخلي بشكل نهائي، ودون رجعة، عن منح حق الإحتكار لشركة، أو جهة لأي قطاع خدماتي في الوطن، إذ أن وجود منافسة، وبدائل للمواطن، قد ساهم بشكل فاعل في تخفيض أسعار الخدمة بشكل واضح .
من المؤسف أن الليبرالية، بثقلها، وجشعها، وقسوتها، تحط على صدور الفقراء، إذ أضحت هي سيدة القرار في فلسطين، وكل شعارات التقدمية، والإشتراكية، والعدالة الإجتماعية، وحقوق الفقراء، والطبقات الكادحة تنهار أمام سطوتها، وغياب مناعة رافعي شعار التصدي لها.
- الإرتماء بحضن الاحتلال ليس بديلا:
خلال متابعتي لردود أفعال المواطنين على الخدمة الجديدة، لاحظت أن أقلية من المواطنين، تقارن بين الشبكات الإسرائيلية، وخدمتها الأقل تكلفة في هذا القطاع، وهناك أقلية داخل تلك الأقلية، دافعت عن قرارها التزود بالخدمة من شركات إسرائيلية، وهو الأمر الذي ذكّرني بالعبودية الطوعية، إذ أنني أرى أن كل المطالب بمراجعة أسعار الخدمات، وتنظيم حملات ممنهجة من أجل هذا الهدف، هو حق مشروع، وإيجابي، ودلالة على قوة المجتمع، ووعي المواطنين، بل هو قوة لشركات الإتصالات نفسها، لرسم سياساتها المستقبلية، وتصويب أدائها، إلا أن الدعوة للإستفادة من خدمات شركات الإتصالات الاحتلالية التي تبث عبر أبراج تطعن قلب الوطن، وتنتشر كالسرطان داخل مستوطنات الإحتلال، وتغذي خزينة الإحتلال، ونظامه العنصري ما بين 70 إلى 100 مليون دولار سنويا، من خلال 460 ألف شريحة احتلالية داخل الضفة الغربية، فهو أمر لا يمكن القبول، به، ولا يجب المقاربة بأي حال من الأحوال، بين ممارسة الحق بمطالبة شركات الإتصالات بتوفير خدمات بأسعار مناسبة، وبين محاولة تبرير التزود بالخدمة من شركات إسرائيلية، تشكل جزءا أساسيا من منظومته الإحتلالية، ومعاناة شعبنا، فلا علاقة لهذا بذاك .
بكل الأحوال، ليس المقصود من هذا المقال شركات الإتصالات بشكل خاص، فهي جزء من المنظومة الإقتصادية الوطنية، التي توفر اَلاف فرص العمل المباشرة، وغير المباشرة لشبابنا، وإنما هدفه تسليط الضوء على قضية عامة، فرضت نفسها، وشغلت الرأي العام، ولا زالت، خلال الأيام الماضية، مثلها مثل قضايا غلاء أسعار الدجاج، والخضار، والسكن، وتكاليف الحياة بكل تفاصيلها.
مبارك لشعبنا خدمة ال 3G، فهي وسيلة هامة لتوثيق نضال شعبنا، وجرائم الاحتلال، والتواصل مع الأحباب، مع ضرورة الإنتباه أن نتجنب استخدامه خلال القيادة، وأن لا يسرق من عمرنا الأوقات التي يجب أن نقضيها مع من نحب .