أرجوُكم كُفوا عن الاضرّابات التجارّية
لا أكتمكم سرّاً إذا ما أخبرتكم بأنني أكره الاضرّابات التجارية كثيراً؛ لأنني غيرُ مقتنع بأنها مفيدة للعمل الوطني، أو إنها تحمل أي مردود أو انتاجية تراكمية ضارة بالعدو ومصالحه، وهي تشبه من يُضرم النار في بيته لأنه تخاصم مع جاره.
أرى أن بقاء الشوراع مليئة بالناس والجماهير أفضل من خلوها منهم؛ وهي التي تشكل الخزان البشري والإنساني لأي فعالية ميدانية، فدعوتهم للمشاركة وهم في الشارع أيسر وأنجح من دعوتهم وهم في المنازل.
دعوة الطلاب والطالبات للمشاركة في أي عمل مماثل ممكنة وهم في مدارّسهم، بينما إخراجهم من المنازل في حالة الإضرّاب أمر فيه مشقة ومثير للإحباط.
خلاصة ذلك تعني بأن منظموا العمل سيفشلون في حشد المقدار الكافي من الجماهير في حالة ألقى الإضراب التجاري والطلابي والمؤسساتي بظله على الشارع العام.
إن تعطيل الحياة العامة عدا عن عدم جدواها، تشيع السكون ونحن أحوج ما نكون للصخب العارم.
وما أشبه هذه الحالة بخطوط شاشة مراقبة قلب الإنسان في المشافي، حيث يشير الخط المتعرج الصاخب إلى وجود الحياة داخل القلب، بينما الخط المستقيم الصامت يدل على موت ذلك القلب وتوقفه عن الخفقان.
إن تجربة شعبنا مع الإضرابات العامة تجربة مريرة ومحفوفة بالخسران المبين، عدا عن انتاجيتها المنخفضة، ومن أغرّب ما عرفته ودونته عن الإضرابات التجارية وشل الحياة داخل المؤسسات العامة، ما كتبه (إليعازر بن يائير- أبراهام شتيرن 23 كانونَ الثاني 1907- 12 شباط 1942م) وهو مُؤسِّسُ مُنظمة شتيرن الإرهابية وتعرف اختصار بــ (لوحامي حيروت إسرائيل - ليحي، المقاتلون من أجل حرية إسرائيل)، التي كانَ لَها دورٌ بارزٌ قَبلَ الحربِ العربيةِ الإسرائيلية عام 1948م وخِلالها.
حيث استوقفني وَصفه للعَربَ وَالفلسطينيين بـ (اللُّصوص) كَنعتٍ ثابِتٍ لهم أينما وجبت الإشارةُ إليهم، وذلك في معرضِ سَردِهِ لِمذكراتِهِ، الأمر الذي دَفَعَني لِتتبع منبع هذهِ المغالاة في الوصفِ لِصفةٍ أعتقدُ بِأنّهُ أحقَّ مِنْ العربِ بِحملِها، فَوجدْتُ الآتي:
مَع بِدايةِ الرُّبع الأخير مِن القَرنِ التّاسع عشر، بَدأتِ الحركةُ الصّهيونيةُ حَمْلَتَها في تَهجيرِ اليهودِ إلى فلسطينَ، وتمكّنَ اليَهودُ حينذاك مِنْ إقامةِ أوّلِ مستعمرةٍ لَهم في فلسطين في عام 1882م، وهيَ مُستعمرة (بتاح تكفا - بوابةُ الأمل) رُغمَ سَرَيان مَفعولِ القوانينِ العُثمانيّة الَّتي كانَتْ تَمْنَعُ تَمَلُّكَ اليهودِ للأرضِ، أو السَّماح لَهُم بِالإقامةِ في فلسطين لِأكثرَ مِنْ ثَلاثةِ شُهور، كما أشرنا إلى هذا الأمرِ في غير مكانٍ في هذا الكتابِ.
إلا أنَّ شِراءَ الأراضي مِنْ قِبَلِ اليَهودِ كانَ يَتمُّ بالسرِّ، ولَمْ تُسجّلِ الأراضي المُباعة لليهودِ في دوائرِ الطّابو العثماني حينذاك، "فكانَ البائعُ العربيَّ يَحصلُ على المالِ الإضافيّ مِنَ المُشتري اليهودي للسماحِ لَهُ بِدخولِ الأرضِ كَمستأجرٍ، وَأحياناً يَمنعهُ مِنْ ذلك، فَيحتفظُ العربيُّ بِالمالِ والأرضِ معاً، الأمر الذي كانَ يَدفعُ المشتريَ اليهوديّ لإعادةِ شرائِها بالسّرٍ مِنْ جَديد، إذا أصرّ العَربيَّ (اللص) على ذلك وهكذا، ووفقاً لشتيرن فقدِ اشترى اليهودُ بعضَ الأراضي مِنَ العربِ أكثر من عشرِ مرات.
بقيتْ هذهِ المُشكلةُ عالِقة بَعدَ وَعد بِلْفور، وُصولاً إلى الإضرابِ العربيّ الشّهير 1936- 1939م، وخلال هذا الإضراب امتنعَ المُوظفونَ العربُ عَنِ الذهابِ إلى مكاتِبِهم في مُختلفِ المديريات الحكومية، ومنها وظيفتي الطابو والموانئ، وبِسببِ ذلك أستبدل الحاكمُ الانجليزيّ الموظفين الفلسطينيين بآخرين يهود، حيثُ قامَ الموظفونَ اليهودُ الجُدُد، بِتَسجيلِ تِلْكَ الأراضي التي اشتراها اليهودُ خِلالَ الفترةِ الواقعةِ بينَ أعوام 1887م - 1936م, باسمِ الملّاك اليهودِ.
من هذهِ الواقعةِ المأساويّة يمكن استخلاص الكثير من العبر، لكن ما يهمنا هنا التأمل في جدوى الإضراب كوسيلة عَمل ومَنهج كفاح مُستخدم منذ عشرات السنين دوُن مُراجعة أو نقد أو تقييم.
أحذروا الفراغ الذي يِتركه الإضراب العام
إذن، الإضراب التجاري ومعه الإضراب العام الذي يشل الحياة، من الممكن أن تكون له عواقب وخيمة مقابل غياب أي فائدة ملموسة له تم تشخيصها طيلة الأعوام الماضية؛ لذلك يمكنني التحذير من بعض الأنماط النضالية التي لا تفيد العملية الكفاحية لشعبنا في هذه المرحلة، وهي كما يلي:
أولاً - التوقف عن الدعوة للإضراب التجاري والعام، واستبداله بمسيرات جماهيرية حاشدة يكون الطلاب والموظفين مكونها الرئيس، بدل صرفهم إلى بيوتهم عندما يكون حاجة للاحتجاج.
ثانياً - عدم استخدام السلاح بأي حال من الأحوال للحفاظ على صفاء الأهداف العليا للانتفاضة.
ثالثاً - عدم استخدام السلاح من قبل المسلحون من داخل المسيرات الجماهيرية، وإطلاق النار على جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي من بين تجمعات الصبية والنساء والشيوخ المشاركين في المسيرات الجماهيرية، وتحويلهم لمتاريس أو دروع بشرية، حيث يمكن للمسلحين القيام بما يحلو لهم من خارج المسيرات الجماهيرية.
خلاصة
إن السماح هذه المرة بانزلاقَ الانتفاضة إلى الأعمال العسكريّةِ، كما كان عليه الحال خلال (انتفاضة الأقصى 2000م – 2004م) سيكون الخطأ الأخير الذي يرتكبه القادة الفلسطينييون، لأنه سيتسبب بفقدانهم للسيطرة على زمامَ الأمور، والوقوع من جديد في الشّرَك الإسرائيليّ الأمريكيّ، بعد ان تتحول الانتفاضة - لا سمح الله - لحركةٍ فوضويّةٍ تمزج بين العمل الجماهيريّ والمُسلّح؛ وهو المنزلق الذي أضرّ بصفاءِ الأهداف السياسيّة والوطنية لانتفاضة الأقصى.
* باحث ومؤرخ فلسطيني