تحليل صافي الإقراض: المخاطر، المعيقات، والحلول
المواطن الملتزم بدفع مستحقات الكهرباء، يدفع ثمن فاتورته مرتين، الأولى للهيئات المحلية أو شركات التوزيع، والثانية حين تقتطع إسرائيل قيمة تلك الفواتير من أموال المقاصّة عبر بند "صافي الإقراض"
بقلم : مؤيد عفانة/ عضو الفريق الأهلي لشفافية الموازنة العامّة في فلسطين
في سياق الأزمة المالية المزمنة التي تعاني منها السلطة الوطنية الفلسطينية، والفجوة التمويلية في الموازنة العامّة المستمرة مُنذ أعوام عِدّة، وفي ظلّ تراجع الدعم الخارجي بشقيّه: للموازنة العامّة، والدعم التطويري، يشكّل استمرار إنفاق الأموال العامّة تحت بند "صافي الإقراض" تحدياً كبيراً للسلطة الوطنية الفلسطينية، واستنزافاً للموازنة العامّة، ومؤجلاً جزءاً مهماً من الإيرادات.
وقدّرَ "صافي الإقراض" في موازنة عام 2017م بمبلغ (950) مليون شيكل، في حين بلغت قيمته المتحققة لعام 2016م مبلغ (1,029) مليون شيكل، حيث فاقت المليار شيكل، فيما بلغت قيمته التراكمية منذ العام 2003م، وحتى عام 2016م حوالي (15.7) مليار شيكل.
وفقاً لتقارير وزارة المالية والتخطيط، و "سلطة النقد الفلسطينية"، كما لا يبدو "صافي الإقراض" المتحقق في العام 2017م أفضل حالاً من السنوات السابقة، فقد بلغت قيمته في الأشهر العشرة المنقضية من العام 2017م، (825.7) مليون شيكل.
والجدير بالذكر أنّ "صافي الإقراض" هو المصطلح المتداول للمبالغ المخصومة من إيرادات المقاصّة من إسرائيل؛ لتسوية ديون مستحقة للشركات الإسرائيلية المزودة للكهرباء، والمياه، وخدمات الصرف الصحي للبلديات ولشركات وجهات التوزيع الفلسطينية، وغيرها من البنود. فبند "صافي الإقراض" أضحى ثابتاً في الموازنة العامّة للسلطة الوطنية الفلسطينية، وهو يُثقل كاهل الموازنة ويحرمها من إيرادات مستحقة، ويعزّز من العجز المالي فيها.
ووفقاً لبرتوكول باريس الاقتصادي الناظم للعلاقة الاقتصادية ما بين السلطة الوطنية وإسرائيل، فإن إسرائيل تقوم بجباية إيرادات نيابة عن السلطة الوطنية ، ويتم تحويلها عبر "تقاصّ" شهري للسلطة الوطنية الفلسطينية، أُطلق عليها " إيرادات المقاصّة"، وهي تشمل ضريبة الدخل، وضريبة القيمة المضافة والشراء والجمارك، وأيّة ضرائب ورسوم تترتب على التبادل التجاري بين إسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية، وتعمل وزارة المالية الإسرائيلية على خصم 3% من قيمة "المقاصّة" بدل خدمة إدارة "المقاصّة"، وتبعا لبيانات الموازنة العامّة 2016م، فانّ قيمة "إيرادات المقاصّة" بلغت (8,930) مليون شيكل.
وبالتالي فإن إسرائيل تقوم بخصم (استقطاع) قيمة "صافي الإقراض" من أموال "إيرادات المقاصّة" الشهرية؛ إذ تُحرَم السلطة الوطنية من إيرادات مهمّة وبنسب دالّة إحصائياً، مقابل خدمات مثل تزويد الكهرباء والمياه، الأصلُ أن تكون سُدّدِت من قِبَل مُستهلكيها (شركات التوزيع والهيئات المحلية) التي تجبيها من المواطنين والمنشآت التجارية والصناعية والمؤسسات المختلفة.
إنّ تخلّف المواطنين والمؤسسات عن دفع مستحقات الكهرباء والمياه ورسوم الهيئات المحلية، من الأسباب الابتدائية الرئيسة لولادة "صافي الإقراض" واستمراره، ونتيجة لذلك تخّلفت الهيئات المحلية وشركات التوزيع عن دفع مستحقاتها، بل وتراخت بعض الهيئات عن دفع ما تجبيه من المواطنين، بحكم أنّ عملية التقاصّ تقوم بها إسرائيل مع السلطة الوطنية مباشرةً من خلال بند "صافي الإقراض"، مما راكم المشكلة وعقّدها وجعلها مزمنة وشائكة.
إجراءات حكومية
ومن خلال تحليل مبنى "صافي الإقراض" فإنّ أثمان الكهرباء المشتراه من شركة الكهرباء الإسرائيلية هي المكوّن الأكبر له، وبمعدل شهري يصل إلى 70 مليون شيكل شهرياً.
وعملت الحكومة الفلسطينية من خلال وزارة المالية وبالتعاون مع وزارة الحكم المحلي وسلطة الطاقة، منذ العام 2014م على تسوية أوضاع الهيئات المحلية، وجدولة ديونها السابقة، من خلال: إلزامها بفتح حساب مخصص لدفع أثمان الكهرباء في كل هيئة، حيث يوجد مراقبون من وزارة الحكم المحلي للمتابعة، كما أصدرت الحكومة قرار رقم (53) لسنة 2016م للرقابة على تنظيم إيرادات ونفقات قطاع الكهرباء وضبطها، وهو يتضمن جملة إجراءات تساهم في تنظيم إيرادات ونفقات قطاع الكهرباء والرقابة عليها، الأمر الذي أثر إيجاباً في تنظيم قطاع الكهرباء، وحقق نجاحات، بالإضافة إلى إنشاء شركة النقل الوطنية للكهرباء، والمتوقع أن تبسط صلاحياتها على مناطق أكثر اتساعاً في المستقبل.
صعوبات التنفيذ
لكن هذه الإجراءات لم تكن كافية لضبط وتخفيض صافي الإقراض لغاية الآن، لوجود أسباب عدّة، منها: أنّ إسرائيل لا تزال تقتطع بدل أثمان الكهرباء تحت بند "صافي الإقراض" من أموال "المقاصّة" حتى قبل استحقاق فواتير شركة الكهرباء، وكذلك الأسباب الجوهرية لاستمرار "صافي الإقراض" فاتورة الكهرباء لقطاع غزة والتي تصل إلى 40 مليون شيكل شهرياً، ولا تتم جباية بدل تلك الأموال، تبعا للواقع المعقّد في قطاع غزة، والمأمول أن يتم حل ذلك الواقع في ضوء المصالحة، وتمكين وعمل الحكومة ومؤسساتها في قطاع غزة، الأمر الذي سيوفّر برامج وأدوات لحل هذه المشكلة ومعالجتها.
كما أنّ مشكلة تخلّف بعض التجمعات الفلسطينية عن دفع أثمان الكهرباء من الأسباب لاستمرار "صافي الإقراض"، وبالتالي فإنّ السلطة الوطنية الفلسطينية تتحمل تلك التكاليف والتي يتم خصمها من قبل الجانب الإسرائيلي من خلال "صافي الإقراض".
إضافة إلى وجود فاقد فني، وفاقد غير فني في شبكات الكهرباء، فالفاقد الفني بحاجة إلى تأهيل، وصيانة، وتطوير للشبكات، أما الفاقد غير الفني فيتطلب إجراءات صارمة لمعاقبة السرقات للتيار الكهربائي، خاصّة وأنّ المواطن الفلسطيني في نهاية المطاف هو من يدفع ثمن ذلك الفاقد بشقيه.
وعلى الرغم وجود الأحكام القانونية ذات الصلة بانضمام الهيئات المحلية لشركات التوزيع، إلا أنّ ذلك لم يتم على أرض الواقع، حيث إنّ هناك 128 هيئة محلية ما تزال تمارس أنشطة ذات علاقة مباشرة بالقطاع الكهربائي وتوزيع الكهرباء، ما يؤدي إلى تشتت نظام توزيع الكهرباء في الضفة الغربية بين البلديات وشركات التوزيع، وعدم الاستفادة من وفورات الحجم، الأمر الذي ينعكس على تدني كفاءة وجودة خدمة الكهرباء وفاعليته، وكفاءة نظام الجباية، إذ إنّ إدارة قطاع الكهرباء تتطلب مهارات، وهيكلية إدارية غير موجودة في هيئات الحكم المحلي.
المواطن يدفع مرتين
وفي ضوءِ ما تقدّم فانّ المواطن الملتزم بدفع مستحقات الكهرباء، يدفع ثمن فاتورته مرتين، الأولى للهيئات المحلية أو شركات التوزيع، والثانية حين تقتطع إسرائيل قيمة تلك الفواتير من أموال المقاصّة عبر بند "صافي الإقراض"، وبالتالي حرمان المواطن من إيرادات مستحقة للمشاريع التطويرية والنفقات العامّة المختلفة التي تنعكس بشكل مباشر على المواطن، أو حين تقوم وزارة المالية بخصم مستحقاتها بدل أثمان الكهرباء من ضريبة الأملاك أو النقل على الطرق المخصصة للهيئات المحلية، وبالتالي لا تقوم تلك الهيئات بتقديم خدماتها للمواطن على الوجه المطلوب.
وختاما، فإنّ الجهد الحكومي للحد من "صافي الإقراض" لن يُؤتِيّ أُكُله إلّا بضبط فاتورة الكهرباء في فلسطين، فهي العنصر الحاكم في مَبنى صافي الإقراض، من خلال رزمة إجراءات قانونية وإدارية وفنية وتوعوية، وقد تناولها بشكّل مفصّل مؤتمر الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة "أمان" السنوي، والذي تم عقده منذ أيام خَلَت، وخُصّصَ لقطاع الكهرباء، وبمشاركة سلطة الطاقة، وشريحة واسعة من الباحثين والمختصين في قطاع الطاقة والكهرباء، وخرج بجملة توصيات مهمة، في حال العمل بها وتبنيها، فمن المؤكّد أن تُثمر عن نتائج ملموسة، ستعمل على الحدِّ من "صافي الإقراض"، والحفاظ على المال العام، وتعزز من الحوكمة في إدارة قطاع الكهرباء في فلسطين.