خطورة حزمة التسهيلات الاقتصادية الإسرائيلية على فلسطين
التقاء الصناعات الفلسطينية والإسرائيلية على منطقة جغرافية واحدة خاضعة لسياسات ضريبية وجمركية وتشغيلية موحدة، ستُفقد الجانب الفلسطيني الميزة النسبية في المنافسة السعرية، وسيتقدم المنتَج الإسرائيلي بميزته النسبية السلعية. فالرهان على قدرة الصناعة الفلسطينية على المنافسة متوقف على الفصل الجغرافي بين الصناعات الفلسطينية والإسرائيلية
منذ سنوات احتلاله الأولى للضفة الغربية وقطاع غزة، نجح الجانب الإسرائيلي في لعب دور الضحية بالمحافل الدولية، مع لبس عباءة التحضر في تعاطيه مع ما اعتاد على وصفه بالإرهاب الفلسطيني في محاولة منه لتجميل صورة الاحتلال أمام الرأي العام العالمي، الأمر الذي يبدو أنه تفوق فيه بامتياز.
ويبدو أن الحاكم المرتقب للضفة الغربية يوؤاف موردخاي (منسق شؤون المناطق الفلسطينية لدى دولة الاحتلال) يسعى لإعادة استنساخ تجربة ما قبل أوسلو عبر حزمة من المساعدات والتسهيلات الاقتصادية أعلن عنها مؤخرا على هامش اجتماع المانحين في نيويورك، والتي سيمنحها للفلسطينيين عبر ما يسمى بالإدارة المدنية الإسرائيلية في مجالات الصناعة والبنى التحتية والمياه، فما حقيقة وأبعاد تلك المساعدات؟
يؤاف مرودخاي لإتمام مخطط الضم
لم يعد خافيا على أحد أن كابوس التفوق الديموغرافي الفلسطيني الذي طالما قضّ مضاجع ساسة الاحتلال الإسرائيلي منذ سنوات الاحتلال الأولى قد بات من الماضي، فالضفة الغربية لن تحتاج لأكثر من 15 عاما ليكون الفلسطينيون فيها أقلية تتبع الحاكم الإسرائيلي لشؤون يهودا والسامرة، (وهو المسمى الإسرائلي لعموم الضفة الغربية).
ومع اقتراب تنفيذ مخطط الضم، كان لزاما على حكومة الاحتلال تعزيز مركز قوى منسق شؤون المناطق الفلسطينية بشخصية عسكرية أكاديمية سياسية تجيد اللغة العربية بطلاقة، تعمل بالتنسيق مع الهيئات الدولية على تقديم المساعدات للفلسطينيين في مجالات البنى التحتية والتعليم والصحة، إضافة لتسهيل عمليات النقل التجاري والشخصي للفلسطينيين عبر المعابر، وهي المجالات التي يروج لها يؤاف موردخاي، الجنرال المحنك في جيش الاحتلال الإسرائيلي والمكلف بتنسيق شؤون المناطق الفلسطينية، عبر حساباته العربية على مواقع التواصل الاجتماعي.
أي أن الجانب الإسرائيلي بدأ عمليا بخطوات استباقية ستقود إلى تحييد الدور الاقتصادي والتنموي للسلطة الفلسطينية لصالح ما يمكن تسميته بعودة ناعمة للإدارة المدنية الإسرائيلية بقيادة موردخاي الذي يتزعم فكر التخفيف عن الفلسطينيين، وتقديم حزم من الحوافز الاقتصادية لهم.
حوافز وتسهيلات!
خلال التحضير لاجتماع المانحين الثاني الذي عقد مؤخرا في في نيويورك، وعلى هامش اجتماع الهيئة العامة للأمم المتحدة، وفيما يبدو أنها كانت خطوة إسرائيلية استباقية للتخفيف من حدة خطاب الرئيس عباس في الأمم المتحدة كبادرة دبلوماسية في صالح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي يعتزم على ما يبدو إطلاق مبادرة لعودة الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي لطاولة المفاوضات، في ظل كل تلك المعطيات، كان الإعلان عن حزمة المساعدات والتسهيلات الاقتصادية.
وإذا ما أخذنا البادرة الإسرائيلية على محمل الجد، فإنه لزاما علينا فصل ظاهرها المعلن عن مضمونها المبيّت الذي يرمي (إضافة لما استهللنا به) إلى تعزيز فكر السلام الاقتصادي في مفاصل الحياة اليومية للفلسطينيين ضمن حالة من العناق غير الصحي بين اقتصاد ضعيف تمعن إسرائيل في إفقاره، وآخر يستمد قوته من إلحاق كافة الموارد البشرية والطبيعية والمالية للفلسطينيين بمنظومته الاقتصادية ضمن ما اصطلح على تسميته بالاحتلال الرخيص.
وتتلخص أبر المساعدات والتسهيلات التي يروج لها الجانب الإسرائيلي بالمحاور التالية:
أولا: فتح قنوات الاتصال المباشر بين إدارة موردخاي العسكرية ذات الثوب المدني مع شرائح العمال والمستثمرين الفلسطينيين لأغراض تسهيل حركتهم وحركة استثماراتهم الداخلية والبينية. ولا شك أن دولة الاحتلال ضمن هذا الإطار قد نجحت إلى حد ما في سحب البساط جزئيا من بعض المؤسسات الاقتصادية للسلطة الفلسطينية لصالح الحاكم المدني الإسرائيلي للضفة الغربية، وهي بذلك تلعب على وتر التسهيل على الفئة الفلسطينية القادرة على حقن الاقتصاد الإسرائلي بفوائض عملهم واستثماراتهم، وهي الفئة الساعية لتعظيم منافعها الفردية في ظل عجز السلطة الفلسطينية عن توفير الظروف المناسبة للعمل أو الاستثمار لهم.
ثانيا: البنى التحتية: وفي هذا السياق يمكن ملاحظة أن السياسات العامة المعلنة للإدارة المدنية الإسرائيلية في الضفة الغربية تعتبر من الإنفاق على البنى التحتية للمناطق الفلسطينية أداة سيادية تلامس بها هم الشارع الفلسطيني للحد الذي يسافر فيه يؤاف موردخاي للدول المانحة لبحث احتياجات الفلسطينيين معهم.
لكن المتتبع لخارطة الاستيطان الإسرائيلي في مناطق الضفة الغربية يدرك أن كل ما أنفق على البنى التحتية الفلسطينية من طرق ومياه وكهرباء كان لأغراض تسهيل عملية الاستيطان الصهيوني الذي ابتلع المزيد من الأراضي الفلسطينية. إضافة لتسهيل عملية انتقال العمالة الفلسطينية الرخيصة ، والبضائع الإسرائيلية، من وإلى المناطق الفلسطينية.
ثالثا: المناطق الصناعية الحدودية المشتركة التي أشار لها موردخاي في أكثر من موضع، والتي تعتزم دولة الاحتلال تسريع وتيرة التسهيلات الممنوحة لإقامتها ضمن ما يبدو ظاهرا أنها تسهيلات اقتصادية ممنوحة للفلسطينيين، فيما تخفي في طياتها تكريسا لفكر الاحتلال الرخيص من بوابة السلام الاقتصادي.
فلا يخفى على أحد الارتباط الاقتصادي العضوي بين الضفة الغربية والاحتلال الإسرائيلي منذ العام 1967، خاصة في سوق العمل. فالعمالة الفلسطينية - كما وصفها محللون إسرائيليون - تعتبر بمثابة الرئة التي يتنفس بها الاقتصاد الإسرائيلي، وعلى وجه الخصوص، العمالة الفلسطينية الصناعية رخيصة الثمن، التي تمنح الصناعات الإسرائيلية قدرة أعلى على المنافسة السعرية. ولطالما كانت آلية وصول العامل الفلسطيني لمكان عمله في المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1948 بأقل كلفة اقتصادية وأمنية على الجانب الإسرائيلي، لطالما كانت تشكل الشغل الشاغل للساسة الإسرائيليين، خاصة بعد توقيع اتفاقية أوسلو، الأمر الذي يسعى الجانب الإسرائيلي لعلاجه من خلال المناطق الصناعية الحدودية المستركة التي ستمنح الصناعات الإسرائيلية الحق بإقامة استثمارات وشراكات مع الجانب الفلسطيني.
لكن على صعيد القدرة التنافسية، فللصناعة الفلسطينية ميزة نسبية من حيث المنافسة السعرية بسبب الانخفاض النسبي في أجور العمالة الفلسطينية الصناعية مقارنة بالجانب الإسرائيلي، وبسبب انخفاض هامش الضرائب عليها، إما لتمتعها بقانون تشجيع الاستثمار الفلسطيني الذي يقدم إعفاءات وحوافز أكبر من نظيره الإسرائيلي، أو لقدرتها العالية على التهرب الضريبي، خاصة وأن معظم الصناعات الفلسطينية عائلية وليست شركات مساهمة.
أما الصناعات الإسرائيلية، فتتمتع بميزة نسبية في المنافسة السلعية، أي بجودة المنتَج والمستوى التكنولوجي المرتفع في العملية الإنتاجية. وبحسبة بسيطة، نجد أن التقاء الصناعات الفلسطينية والإسرائيلية على منطقة جغرافية واحدة خاضعة لسياسات ضريبية وجمركية وتشغيلية موحدة، ستُفقد الجانب الفلسطيني الميزة النسبية في المنافسة السعرية، وسيتقدم المنتَج الإسرائيلي بميزته النسبية السلعية. فالرهان على قدرة الصناعة الفلسطينية على المنافسة متوقف على الفصل الجغرافي بين الصناعات الفلسطينية والإسرائيلية.
من كل ما سبق، نستنتج أن العودة الناعمة للإدارة المدنية الإسرائيلية في المناطق الفلسطينية من بوابة التسهيلات والمساعدات والسلام الاقتصادي التي يقودها موردخاي تحمل في طياتها القليل من السيادة الفلسطينية على القرار الاقتصادي، والكثير من العناق غير الصحي بين اقتصاد فلسطيني ضعيف، واقتصاد اسرائيلي قادر على تكريس فكر الاحتلال الرخيص فيما يبدو أنه بداية لطرح تصفية إسرائيلية خلاقة للقضية الفلسطينية قد تقود لإتمام خطة الضم من خلال حل الدولة الواحدة ثنائية القومية على أراضي الضفة الغربية.